السبت، 27 يوليو 2019



من درجات الابداع 

قد لا يحتاج الشاعر الى اكثر من الانكفاء المؤقت على النفس ، ثم اغلاق منافذ الوعي والانتباه المفتوحة الى الخارج ، واستحضار ذكرى الامر العظيم الذي مر به او الخطب الجليل الذي آلمه او المناسبة السعيدة التي مرت به او مشاعر الحب والوجد التي غمرت قلبه ، حتى تنثال على قلبه خطرات الالهام المنهمرة وكأنها ومضات ابداع قدحت في راسه ، ودفقات وجد فاضت على قلبه وتاجّجت فيه ، ورسائل وحي والهام بعثتها اليه ربات الشعر من فوق ، فالتمعت في راسه رؤى وافكار لم تكن لتمر عليه لو كان دائراً مع الاخرين في سورة التعامل والانشغال بمتطلبات الحياة في المجتمع ، وقد لا يحتاج الاديب المفكر اكثر من قلم وورقة ليسطر عليها بيراعة المتمرس رائعة من روائع الادب فتضحى خالدة يتناقلها القراء جيلا بعد جيل .. كل هذا جائز .. ولكن عند من ..؟ انها عند تلك الطبقة المتميزة ،  تلك التي حباها الله تعالى بقدرات وصفات لن نجدها عند غيرهم .. انهم اصحاب عقول متفتحة ومستويات شعور واسعة وخزائن معلومات كبيرة وارصدة معلومات تغطي مساحات شاسعة ، اذهانهم متوقدة وسيّالات الفكر عندهم تمضي على عجل ولهم قلوب نابضة وعواطف جياشة  ... وذكريات حاضرة وافكار جاهزة وابداع كامن يكاد ان ينطلق .
ولنا ان نحسب مجموعة اخرى من المبدعين على انها منهم ايضا ، فيهم اعلام فكر وادب ولهم محبون ومتابعون ولهم ابداعات ونتاج يدور بين المثقفين .. لكنهم يقفون على كفة اخرى مقابلة ومختلفة .. والاختلاف بين المجموعتين ، اختلاف طبع وتركيب جسمي فسلجي عصبي .. ذاك الاختلاف الذي يقربنا الى فهمه عالم النفس( هـ ج ايزنك )في كتبه - منها المترجم بعنوان الحقيقة والوهم في علم النفس - والدكتور المرحوم ( سامي الدروبي ) في مؤلفه علم الطباع المدرسة الفرنسية . فللاولى صفات نفسية وجسمية كثيرة منها سرعة التيار العصبي المنطلق من الدماغ نحو الخارج منه ، وانتقاله من عقدة عصبية الى اخرى ، وكذلك تداعي الافكار والمعاني على ذهن صاحبها بسرعة مطردة ، كلما اشتد انفعال الشخص ازداد التدفق وتوالت الافكار وازدادت حدة وكثرت ثراءً .. والعكس صحيح عند المجموعة الاخرى المقابلة نعني ان دفقات المعاني والافكار قد تتلكأ وتعجز عن اسعاف صاحبها كلما ازداد انفعاله حدة وشدة ،  فيستجدي اعماق نفسه  ومخزون دماغه ليجودا عليه بالفاظ تصور حاله وتتجاوز احراجه  (( المطالعات قديمة ومن وحيها جاء الذي تقدم ذكره )). الاول كلما ازداد انفعالا واشتدّ حماساً  زادت الفاضه تدفقاً ومعانيه ثراءً وحدّة .. اما الآخر فسيزداد عجزاً وبطئاً وتشتتاً وانهيارا ولن يسعفه الا التريث والتامل واستجماع قواه وافكاره .
قد تقدّم المجموعة الاولى اعمالا ابداعية تشهد لهم بالتفوق والتفرد دون التوقف طويلا عند مراحل الابداع التي اسهب في وصفها علماء النفس لما يتميزون به من السرعة في التفكير وفي استدعاء الذكريات والاحساس العميق بالمواقف المتازمة والسعة في ساحة الشعور ، لكن الامر غير ذلك عند المجموعة الثانية ، فهم بحاجة الى المكوث اطول عند محطات الانتاج الادبي او الفكري المبدع ، واحوج الى استجماع الموارد المفيدة في تقديم حلول ملهمة تشهد لهم بالاصالة في التفكير .. فلو طلب من احدهم كتابة مقال عن موضوع ما من المواضيع ، فسيسارع الى اقرب مكتبة او مركز انترنيت لتوفير المراجع التي تخدمه في كتابة المطلوب ، وهذا قد لا نجده عند المبدعين من الصنف الاول   ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.