الخميس، 30 مايو 2019








عقولنا في عصر الحضارة العريقة والمدنية المتطورة


احقا ان تقدم الحضارة وتطور العلوم لا ينهضان في المجتمع الديني الذي يؤمن بالله رب العالمين وخالق الكون العظيم وباعث الانبياء والمرسلين يعلمون الناس ويهدونهم الى صراط مستقيم ومجتمع سليم وحضارة متقدمة يُحيون فيها مشاعر المحبة والائتلاف والتعاون والتضامن وإن اختلفوا بالاجناس والاديان ، فلا احقاد  ولا تشدد ولا اقتتال ولاحروب ولا سفك دماء ولا خراب ولا دمار .. قد يكون هذا حلماً جميلا ، واملاً وطيداً وانتظاراً بهيجاً ، انه الحال الجديرين به والصورة المشرفة التي تحلو بهم ، ويشهد عليه تلك المفاهيم العامة الدائرة بين الناس عن الايمان الذي لا يكتمل الا بحب الاخ لاخيه والجار لجاره ،  وبامان الناس من لسانه ويده و بوائقه وان لا ينام وهو يعلم ان جاره جائع .. ، لكن الذي قدموه على نقيض واختلاف فلا نراهم اليوم الا في تدهور وانحدار وانحطاط وخراب وموت حضاري وتدن اجتماعي وحروب ومعارك وتخلف وجهل انهم يموتون حضاريا ويتقهقرون ولا يتقدمون ، مستسلمون لا ينهضون ، متّكلون وعاجزون عن مواجهة التحديات ، يؤثرون اللهو واللعب ويمجون الجد في الامر والسعي والتحصيل ويرمون الحظ والنصيب بدعاوى الفشل والانكسار والاندثار ، انهم يقدمون للتاريخ صورة تبعث على التشاؤم والياس والالم 
وهل حقا ان من شأن بُنى الدين ان تكبل العقول وتحبس النفوس وتزهق الارواح وتميت القلوب وتعجز الامال وتثبّط الهمم فلا ابداع في الافق يخفق ، ولا شجاعة في الصدور تثبت ، ولا همة عالية تدفع النفوس الى اقتحام المجهول من المسالك ، وتجربة المطروح من مشاريع التغيير والتطوير والبناء ، واستكشاف الجديد من الافكار .. ؟ فان على الشعوب المتطلعة الى الحال الافضل ان تنفض الغبار وتكسر القيود وتفك الاقفال وتنطلق بلا تردد لترتقي سلالم التطور الثقافي والتكنولوجي والحضاري ، لا خرافات فيها ولا اوهام .. ؟ انها دعوى مقامة لدى محكمة العقل  ( المطلق ) يريد فيها  دعات التطور المادي والتقني والحضاري وضع الدين في اقفاص الاتهام ، مع انها مرامي واضحة واهداف مشخصة ومقاصد مباشرة لدعوات الى التفكر والتدبّر وإعمال العقل في ظواهر الطبيعة والارض والسماء  ..  يكفي امر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بدعوة طبيب يعالج مريضاً ولم يقل ارفعوا ايديكم الى السماء ..  
وهل ان علماء الاحياء والفيزياء الساعون لايجاد اجوبة عن اصل الكون وما فيه هم ملاحدة اقحاح ، لايؤمنون باله خالق ولاعالم روحي ولا دين سماوي ولا جنان تنتظر الصالحين ونيران تلتهم الطالحين من الناس .. فان بين العلم والدين حواجز لاتخترق ونفور لا عودة فيه وهما على طرفي طريق ممدود ان اقترب الواحد من احدهما زاد بعدا عن الاخر ..؟ 

وهل يصح ان يكون العقل حجة الملحدين لا المؤمنين ، صممته الطبيعة عبر مراحل التطور العجيب ليكون اداة يستعين بها الانسان في سعيه للسيطرة على المادة والطبيعة وتمكنه من التوافق والتكيف وحفظ الحياة والنوع  .. ام هو الدليل الامين الى طمانينة القلب وراحة النفس وثقةٍ برحمة الله رب العالمين وهو الاداة الصالحة التي اودعها الله الانسان يعمر بها الارض ويعبد خالقه .. ان في صور الحياة البسيطة الغير المعقدة مخلوقات لم تكن بحاجة الى عقول متطورة وادمغة معقدة لما لها من قدرة فائقة على العيش في الاوساط الصعبة والحرارة العالية او المنخفضة بشكل لا يصدق والضغط العالى او الواطئ والوسط الكيمياوي الغير المحتمل والاشعاعات الذرية الفتاكة وان منها من عاد الى صورته الحية وواصل دبيبه بعد ان بقى مدفونا تحت اطمار الثلوج لالاف السنين ، الامر الذي يبعث المتأمّل الى التساؤل عن الجدوى والحكمة من تضحية هذه الموجودات بنفسها لتستبدل الذي هو ادنى صمودا ومقاومة بالذي هو اعلى قدرة وكفاءة في الحفاظ على دفقة الحياة نابضة لالاف السنين . لقد كان (شوبنهور) و(برجسون) و(برنارد شو) وغيرهم مصيبين حينما امعنوا النظر في صور الحياة فلمحوا خيال قوة  ( واعية أو لا واعية )  تدفع بالموجودات نحو اهداف ذات دلائل على القصد والتدبير  ، بل هي عقل شقّ طريقه واعتلى العرش منفردا ، إن لم يكن يبغي الى تحطيم المادة وتحويلها الى ذرات عقل (مطلق ) ..  دفعت مملكتي النبات والحيوان على ما هما عليه من انفصال وافتراق لان يبتكرا سوية طريقة التزاوج بين فردين منفصلين ، الذكور والاناث .. وماذا عن الجمال والتناسق حينما  تسلّق السلم الذي ترتقيه الاحياء ووشّى وجوهها بازهى الالوان وصبّ اجسامها باجمل الهياكل ، اليس في هذه الرفقة  دلالة على القوة الواعية التي قصدها اصحاب العقول الجبارة المذكورون  ؟؟  
ان للعقل تفسيرين احدهما ذاك الذي امتطى ظهر اول خلية حية (المونيرا ) ثم انتصب ، وصار موجودا وظَهر، ارتبط بالخلية هذه وعليها اعتمد ، ينمو بنموها ويتعقد ان تعقدت وتطورت ، فهو في نمو وتطور واكتمال ، مهما تقدم يبقى ناقصا لا يبلغ الكمال . وكأنه الكرة التي تدفع بها حشرة الارض السوداء ( من الخنافس ) .. اما الاخر فانه منحة الخالق للانسان ، به ينير طريقه ويعرف الحق ، وبه يدرك الايات وحكمة الرب في الخلق ، وبه يبني ويصنع ويطور ويبدع 
ليس للملحد ان ينكر ان لاوليات العقل اسس لا تخضع للتجريب او الشك ، وان مجموع 1 الى 1 معلوم لا خطأ فيه ، والكل اكبر من الجزء وعلينا ان نلف و ندور لاثبات غير ذلك فهي مودعة في الرؤوس واوليات لا يتطرق اليها شك 
العقل في ذاته لم ينضج نضجا ما بعده بعد ، فقد كُتب عليه ان يحسن الامساك بزمام الخلية الحية الاولى في رحلتها الطويلة نحو افاق التخصص والتطور والاكتمال ، وليس له ان يطلق احكاما لم تستوف شروط التثبت والتحقق ، بل ان عليه ان لا يطلق حكما ولا يطمئن لتجربة ، لكننا نفكر ونجرب ونصنع ونبني وننتج وننتهي الى قوانين وقناعات ومسلمات 
فمن اين لنا اليقين بان الحديد بالحرارة يسخن وبالطرق يتمدد ونحن لم نخضع الحديد كله ( الموجود على الارض والموجود في اجواز الفضاء ) للتجربة ..؟ احكام آمنا بصدقها ولا ضامن لنا فيها الا ( عقل اودعه الله فينا سبحانه ) .. ؟
اليس اذن ان ما يشهده العالم الغربي وما ينعم به في ظل حضارة متقدمة و تكنولوجيا متقدمة قد شُيّد وفق تصاميم مبنية على اسس عقلية لم تقدمها لنا التجارب بل اوليات اودعها الله في العقل ( وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) 
يشهد العالم اليوم بزوغ نجم الالحاد متوسطا عنان السماء ، تتطلع اليه الانظار وتانس ببريقه قلوب المفتونين بتطبيقات العلوم وانجازات العلماء ، وله في بلداننا شباب مبهورون باضوائه اللامعة وهداياه المفرحة ، ويؤمنون بصحة دعوته ونبل غايته ونجاح وصاياه ، وليس ادل على ذلك من الانجازات العلمية والتقدم الحضاري والتطور التكنولوجي الذي يشهده الغرب ( حاضن الالحاد ) وما يمنّه علينا من عطاياه التي لولاها لبقينا ننام في الخيام ونمتطي صهوات الجياد 
امّا في اوطاننا ، فكثير من مفكريها يرى ان دعوة الالحاد دعوة مغرضة ، تستبطن مؤامرة وتخفي اسرارا  لو ادركها شبابنا لغيّروا مواقفهم ونصروا ربهم وتمسكوا بدينهم .. وان جوهر المشكلة هو تاخر قاطرتنا الواضح عن اللحاق بمن قطع اشواطا كثيرة وآماد بعيدة بما يدفع الى مشاعر الاحباط والياس وفقدان الثقة بسلامة العيون ووضوح الرؤى وبنية العقل وفقدان الثقة بالدين .. وكذلك فان من جوهر المشكلة الربط بين التقدم العلمي وعقلية الملحد الذي يرى العالم وفق قوانين قابلة للتجريب وكأن التقدم في العلوم والتطور في العمران ظواهر موقوفة ومرهونة بالتفكير الالحادي كما يرتهن الخِصب بالماء ، وكذلك الربط بين التخلف وعقلية المؤمن بالهٍ لايُرى بالعين وارواح واشباح تمشي بين الناس وملائكة تملأ اقطار السماوات .. وهذا ربط غير لازم واستدلال زائف وخاطىء تكذبه التجارب وتشهد عليه الوقائع ، فان التقدم العلمي قد يحالف المؤمن كما يحالف الملحد .. اما عن تاخرنا الذي يؤلم النفوس ويدمي القلوب ويقضّ المضاجع فله اسباب اخرى حددها اولئك المفكرون ، وعسى ان يوفق الله ساستنا الى ما يرأب الصدع ويصلح الحال ويعيد السفينة الى مسارها الصحيح . 
للشك آلية في النفس ، متعلقة بكل طارىء يعرض للانسان واختيار بين اثنين ومجهول ماثل لاخبرة لنا به .. وهو حالة صحيحة ما لم يتأزم ويشتد ليصير مرضا يلزم العلاج .. ونحن نتساءل ان كان الخبر صادقا ام كاذبا وان كان الشخص الواقف امامنا صديقا محبا ام عدوا حاقدا ، وان كان اختيارنا صحيحا ام خاطئا ، وان كانت قناعاتنا موفقة ام خرقاء .. قد يكون في الالحاد بعض من هذا الشك استفحل وتعاظم وران على القلب . وقد تكون في الخواطر التي نحسبها وساوس شيطانية وما هي من الشيطان تكاد ان تزعزع اليقين وتحير العقل لكنها حركة عقلية غريزية يستوثق فيها سلامة الموقف ويضع قدمه على الارض ثابتة ، فهي بهذا الفعل (محض الايمان) 
وللانبياء والرسل ( صلى الله عليهم وسلم ) مواقف فيها من الاشارات والدلائل التي تستدعي الانتباه والتفكر ، تلك التي كانوا فيها مع الله في تواصل ملك الروح والجوارح والنفوس والقلوب والفكر ، فسألوه ان يريهم كيف يحيى الموتى او ينظروا اليه لتطمئن قلوبهم وما في قلوبهم شك في وجوده وقدرته سبحانه .. فهل ان من الاسئلة التي آرقت ابناءنا فراحوا يجدّون في البحث عن ادلة تثبت وجود الله سبحانه ، شيء من جنس حركة النفس وارتعاشة القلب ووثبة العقل السليم ، وشيء من الذي بان في طلب الانبياء صلى الله عليهم وسلم ... ؟
ومن الذي يدعيه بعض مفكرينا ( وهم عادة ليسوا ممثلين رسميين عن المؤسسات الدينية بسبب الاعراض اللّازم عن اللغو ، وكذلك النأي بالنفس عن زج دعوة الايمان بما لا يليق بها ) ان تطورا كبيرا في اساليب الهجمة ، قد استهدفت الروح الصافية والقلوب المؤمنة والعقول السليمة والشباب البريء .. خلطوا عليهم الافكار وبلبلوا العقول وزلزلوها زلزالا شديدا مسح الذكريات المخزنة في الراس وبدّل القناعات المستقرة في القلب فصار الدين عندهم حاضنة الارهاب وداعية التخلف وقاتل الرحمة بين البشر وخانق العقول ومكبل الحريات ومروج الخرافات التي تعمي العيون وتغط الرؤس في برك الاوهام ، ويصرفهم عن رؤية الواقع المعاش ويردهم الى الماضي المندثر .. لا ابداع يعود بالفوائد ولا رأي سديد يهدي الى سبل النجاة والنجاح 
وهم يرون ان هجمتهم ممنهجة وبخطة مدبرة ورعاية مؤسسات خارجية متمكنة لها من الدراية والمعرفة والامكانات الهائلة ما يبعث الى اطمئنان دعاتها واحساسهم بالثقة والاقتدار والتحصن من الاخطار حتى لو افتضح امرهم وكشف سرهم وتنبه لخطرهم المسؤولون على حفظ الامن والاستقرار في البلد .. بل ويظنون ان الفوضى والاضطراب والاقتتال والخراب الذي يكاد يغطي بلدان منطقتنا اجمع انما بتدبير يسعى الى انصراف ساسة بلداننا عنهم وتجنيد الذي عندهم ليتداركوا المصير المرعب ويتجنبوا الاخطار المهلكة المحيقة ببلدانهم . ملكوا وسائل اعلام مؤثرة ، مواقع اجتماعية تشد المتابع وتاسر قلبه ، محطات التلفزيون ومنصات المسارح وصفحات الجرائد ومؤلفات احاطوا بها الناس اينما التفتوا ، لقد درسوا الانسان واطباعه ورغباته وحاجاته واطماعه ومواطن قوّته وضعفه وثغرات يدخلون منها الى النفس واعماقها ، والعقول وآفاقها ، يسلبون الارادة ويجمدون العقول ويخدرون الضمائر .. فيضحون هم الامل المرتجى والثقة العالية والخبر المقبول بلا تردد 
الحرب النفسية لعبتهم والتشويه والتشهير مهنتهم ومحاوطة الخصم والجام فمه وشل يده غايتهم .. يجوبون مواقع النشر ( منها الانترنيت ) يبحثون عن (اليرقات ) فيتابعونها ويرصدون انتاجها وتطورها ولا يفلت منهم الا من سار معهم ووافق امرهم او مات دونهم هذا ما فهمناه منهم  وان لم يصرحوا به نصاً 
لا نعدو الصواب إن رأينا ان في الموقف هذا كثيراً من المبالغة ومجانبة الحق ، فليس كل من اعلن عن الحاده وجاهر به سيء الطوية وخبيث النفس وعميل للغير وحصان طروادة تتسلل من خلاله قوى تروج لدعوات تهدف الى هدم البناء الحضاري كله من اسسه وقواعده حتى عمود السارية وعَلَمه ، ففي تمردهم روح ثائرة رافضة لمظاهر التخلف والانهيار وتطلع لمعاودة النهوض والمسير والاخذ باسباب التقدم والعلم والنجاح في بناء مجتمع سعيد وحضارة متقدمة ، ووجه الاختلاف هو نكرانهم لروح المجتمع الاسلامي وتراثه وتاريخه ونكرانهم لله رب العالمين وانتهاج مسيرة تخدم النوايا المبيتة والاهداف القاتلة التي لولاها لهان امر الحوار معهم ، يرى مفكرون ( لايلبسون الطرابيش والعمائم ) ان في الامر جهل مركب وتعتيم مفتعل غطّى على صور حضارة العرب ايام نهضتهم وان في الساحة الفكرية ما يكشف عن هذا اللبس وان من مفكري الغرب والمستشرقين من اشاد بها  وبدورها العظيم حينما نام الغرب واستيقظ العرب وحفظوا التراث الحضاري وا ضافوا عليه من عندهم وردوا للغرب الذي ناموا دونه وزيادة ، ان منهم ( المستشرقين ) من آلمه طرد العرب من الاندلس  وراى انهم لو بقوا لكان حال الغرب احسن واكثر رقيا ، وآخر راى ان تفوق العرب وظهورهم على الغرب لم يكن بقوة السلاح والعتاد بل بحسن السلوك ورقي حضارتهم ولمفكرينا دراسات ومناضرا ت سلطت الاضواء على التاريخ والمنجزات ودراسات المستشرقين ،افاضوا فيها واستطردوا وافحموا المدعين منهم وردوا شكوكهم ، لكننا اليوم نجادل ونناقش دون وعي بها ولا  معرفة ، والفكرة العامة عندنا  التي منها ننطلق ، ان كل ماهو  عائد الى ماضينا واعرافنا وطقوسنا مرفوض ومستقبح وان التمرد عليهم والخروج من دائرتهم اولى واجدر .. واعلامنا قد طاله التقصير والعجز ، وما نراه صورتين .. في احداهما تخلف وتدهور واقتتال وخراب وحروب ودمار ووجوه منهكة ونفوس حاقدة ومتعبة ، فهي متلازمة الايمان والدين ، اما الاخرى ففيها الرقي الحضاري والتطور التقني والسمو الفكري ومظاهر السعادة بين الناس ، لقد اعاد على اسماعنا احد اعلام الالحاد في اوساطنا  اليوم  - والالم يعتصر قلبه - كيف ان تصنيفا  عرقياً وضع العرب في درجة هي الاقرب الى درجات الحيوان . ان من الشريحة هذه مفكرين يابون ان يكونوا ادوات شطرنج تحركها عقول مغرضة ترمي الى كسر الحلقات التي تربطهم بالمجتع وعاداته والاطاحة بالثقة والايمان بالله والدين واستبعاد الامل في ان يعنّ لهم ما يعيدهم الى ما آمنوا به ولو بشيء من التطوير ، لا هم لهم بمتاع قليل ولا شهرة ومكانة مرموقة بين الناس ، وان جاءت اليهم فلانهم كفؤً لها وجديرين بها ، ربما صرحوا بالحادهم او اخفوه ، لكنهم يفخرون بما في سريرتهم من الاخلاص والصدق وجدّهم في البحث النزيه عما يرضي عقولهم ويطمئن نفوسهم ، و هؤلاء من جنس بناة الحضارة الصادقين سؤاء كانوا على ايمان او الحاد ، ومن جنس المبدعين والمخترعين والمكتشفين ، ومن الذين اذا مروا بغيرهم رثوا لحالهم وانكروا عليهم فعلهم 
وعلى العكس منهم ، اولئك الذين لا همّ لهم ان كان الله ( تعالى ) موجودا او غير موجود ، وكل الذي يبغونه متعة الدنيا وما يؤمنها من المال .. ولا مانع لهم من تقديم خدماتهم واستعمال قدراتهم في اي جانب او اتجاه ، يسخرون ويضحكون ويرسمون وينحتون ويقفون على خشبات المسارح ويكتبون القصص وينظمون الاشعار (( مع الاحترام والتقدير والاعتذار لكل اديب وفنان )) .. وهؤلاء هم الطامة الكبرى ولا ادري ان كانوا هم ممن أُطلق عليم اسم ( كلاب المجتمع السائبة ) 

الثلاثاء، 28 مايو 2019



بين النقل والابداع


كلنا مبدع

من منا من لا يرى انه انسان مبدع و فنان متميز وفيلسوف له في كل امر وجهة نظر .... ؟
أرى ان الإجابة بالنفي مجانبة للصواب .. وان رد احد بان سقراط قد اعلن ذلك منذ اكثر من الف سنة وبيّن للناس انه جاهل وكل الذي يعرفه هو انه لا يعرف شيئا ، فذاك ادعاء لم يكن مؤمنا به في حقيقة الامر، بل هو أسلوب ابتدعه للتواصل مع مواطنيه وتعليمهم ، وليظهر لهم التناقض في تفكيرهم واقوالهم ، ودفعهم الى تبني اراء أخرى لم يكونوا مؤمنين بها ، اما عن نفسه فقد كان على علم بانه يعلم .

وكذا الذي يبديه اعلام الفكر الاخرون من جهل وحيرة امام الغاز الوجود وافاقه الرحبة ، فهو ضرب من الخُلق السامي وتواضع يليق بهم ان يبدوه ، وهو حال كل من أثقل العلم رأسه حتى مال وانحنى كما تنحي السنبلة عندما تمتلئ ، وهم في حقيقة الامر على معرفة بالمستوى الذي بلغوه والعلم الذي استوعبوه وعرفوا ان التقدم في المعارف والارتقاء بالعلوم يزيد الفهم ويوسع المدارك ، لكنه في ذات الوقت يكشف عن ابعاد لم تكن ظاهرة على شاشات الاحساس والشعور ، ويفتح أبواب التساؤل عن ظواهر كانت مختبئة خلف الاستار ، واحاجٍ لم تخطر لهم على بال ، وان بين العقل والحقيقة المطلقة هوّة كبيرة ، لها من العمق والاتساع ما يدفعهم الى الاعتقاد بحقيقة ان كلما زادت معارف الانسان وكبر عقله وتوقد ذكاؤه ، ازداد صغرا وضآلة امام حقائق الكون واسراره .
وما قيل عن العلماء نقوله عن الاخرين .. عن عامة الناس ، مثقفيهم وجهّالهم .. الكل يرى انه صاحب فكر متميز وعقل واسع ورؤية نافذة .. اننا نرى اليوم سماء الانترنيت ملأى بمواقع شخصية ومؤسسات متخصصة لاشك انها على مستوىً عالٍ من الفهم والعلم والخبرة والاختصاص لكن الاكثر هم اقرب الى الجهل وسوء الفهم وقلة التجربة وعدم الجديّة او الاكتراث ، ولا زلت اذكر زميلي الذي اعلن لنا - في لقاء تداورت بيننا فيه مشاكلنا الحياتية وتعقيداتها المزعجة -  انه لو اُختير رئيس دولة لقاد البلد نحو دروب التقدم والسعادة والرفاه ، ونحن اعلم الناس بما يعانيه من تدن في كل مستويات المعرفة والفكر السياسي الذي ليس له فيه نصيب .. من المؤكد انه قد تابع احداث بلدان العالم السياسية ومعاناة الشعوب اليومية عبر وسائط الاعلام المرئية والمقروءة وتبادل فيما بينه وبين الاخرين اطراف احاديث السياسة وقيادة الناس وإدارة مرافق الدولة كحال كل المجالس واللقاءات بين افراد العائلة والمقربين والمارين العابرين المستطرقين في الاماكن العامة والمقاهي والحافلات فكان لكل واحد منهم وجهة نظر.. اما هوفقد اعجبه رأيه ورأى انه فلتة من فلتات عقله وابداع ليس بمقدور الاخرين الاتيان بمثله ، وربما رفرفت ثيابه خيلاء وانبسطت اساريره اعجاباً وارتفع صدره ثقة وغمرته مشاعر الاعتداد بالنفس دون ان يدري انه جاهل وليس لديه رصيد  يصرفه في عوالم الادارة ولا أدوات مناسبة  ولا نفوذ واسع يستند اليه .. لعل الخطأ ( كل الخطأ ) اننا حينما نفكر نستخدم مفاهيم عامة كوّنّاها في نفوسنا وملأنا بها رؤوسنا بما فيها من سطحية وضبابية وغواش ، منها نستنتج ونقطع ونبتكر ونؤلف ونكتب ونربي ونوجه ويملؤنا يقين بان ما كان ماثلاً في عقولنا هو علوم الفيزياء والكيمياء والاجتماع والفلسفة والتاريخ والقرآن والحديث و .. و .. فكلها مخزونة في تلافيف ادمغتنا وطوع امرنا نتصرف بها انّى نشاء  .. لقد ذهب ارباب الفكر الاصلاء وتواروا وصاروا كالسراب ، وبرز  الجهّال السذّج قليلو الفطنة والنباهة والعلم فتكلموا كما تكلم اولو الفكر الاصيل والفهم العميق والذكاء المبدع الخلّاق وبتنا نستمع اليهم ونعجب بهم فلا نفرق بين الغِرِّ هذا وذاك الذكي الفاهم الفطن .
لقد ادرك سقراط – ان لم يكن خطأ - الحقيقة هذه وعرف احاسيس الناس ومشاعرهم وبيّن أن ما من مهنة الا ولها سر تنفرد به وعلى من أراد ممارستها التدرب عليها والتعلم فيها  الوقوف علي السر هذا قبل اي شيْ ، الا السياسة فهي المجال الذي يرى كل الناس ، على اختلافهم ، انهم مؤهلون لخوض غماره ، وانهم اصحاب نظر ورأي سديد يؤهلهم لاِحراز النجاحات فيه ..
ولا زال الامر باقٍ على صحته ، فان كان صحيحا أيام سقراط فهو صحيح في أيامنا هذه أيضا حتى وان استجدت في الفكر السياسي علوم لاحقة وخبرات متنوعة وقوانين ومعاهدات وتاريخ سياسي للأمم والحروب .. فهي تدور بشكلها العام حول محور حياة الشعوب وإدارة شئون البلدان ومعرفة الصالح والاصلح لهم .
وليس الذي قيل صحيح في مجال السياسة وقيادة الدول وحسب .. بل هو ظاهر وبين في أمور الفكر عامة .. والجاهل ( ان لم نقل والمثقفين في شكل عام ) يعيش دوماً إحساساً غامراَ يفرح قلبه وسروراً بما لديه من نظر ثاقب ومعرفة واسعة ورؤية واضحة .. وقد مرت بي أيام كنت اطالع فيها المواضيع المحببة الي وقد كتبت بأقلام كتاب مبدعين ، امتازوا بسعة العلم والقدرة على اثارة الدهشة والتساؤل والامعان في التفكير لدى الاخرين ، شعرت معها بالذي ناب الجهّال وظننت ان لي مدى نظر بعيد ، واني أرى اكثر مما يراه الغير، وادرك الأمور على مستوى عال من درجات الفهم والتبصر.. ولولا الشخص المزهوّ الذي عرض لي حينذاك ، ذاك الذي طلب مني سؤاله عن أي شيء ابغي معرفته ليقدم لي ما يشبع رغبة الفهم وينير ظلمة العقل ، فكان اول سؤالي عن ( كارل ماركس ) وفلسفته .. وصعق الذي ادعى العلم فدارى جهله بعبارة كانت حاضرة على السنة من انضووا تحت خيمة الفكر الجمعي الذي تبناه المجتمع ..
ورأيت نفسي واقفاً في مكان جاهلنا هذا ، وماذا لو سألني من لديه أسئلة عما ليس لي به علم او معرفة .. وادركت حقيقة ان ما تجمع لدي من معارف (( وهي قليلة جدا في حقيقة الامر )) لم تكن الا جوانب ضيقة من الفكر الذي قدمه اعلام الفكر الذين قرات لهم .. فيا لحرج من ادعى العلم وهو جاهل بل يا لعاره ، ويا لخيبة من زج بنفسه في مشهد يكشف نشازه ويظهر عواره ويُضحك الاخرين عليه .
ولو ادرك من ظن أن ليس في الدنيا شيء لا يعرف حقيقته ، انه صاحب نظر قصير وادراك محدود ، وان الخطأ انما يكمن في اعتقاده بان حدود العالم تنتهي بحدود عقله .. ولو كان حاله كحال الفيلسوف اليوناني القديم الذي تمنى بلوغ الحدود التي تنتهي اليها السماء ، ليمد عصاه خارجا فيعرف الذي يوجد هناك ... لأدرك ان بعد الحدود آماد بعيدة وحقائق كثيرة لم تعرف واسراراً لم تتكشف بعد .


كونفوشيوس عرف نفسه

من الذين عرفوا انفسهم فاعربوا عن رغبتهم بتولي منصب عالٍ في الحكم ، ذاك الذي وصفه احد المارين عليه في بلدته ( دون ان يعرفه ) فقال انه رأى رجلا قبيحا ، ذا وجه كئيب كوجه كلب ضال - كان قبيحا - له شفاه كشفاه الثور، وفم واسع كسعة البحر ، انه (( كونفوشيوس )) ذاك الرجل العظيم والمربي الكبير الذي اخفى روحه السامية وعقله الكبير وحكمته البالغة خلف قناع الجسد .. وكانّه يلقننا درساً بان لا يوهمنا المظهر يوما فنوقر السافل الدنيء الجبان ، ونهين ابيَّ النفس ، كريم الأصل عالي الاخلاق ...
لقد اعلن على الملأ يوماً ، ان لو أولاه الامراء منصبا لقدم للناس والبلد من الأعمال الجليلة ما يرقى بهم الى مستوى متقدم وبلغ بهم الكمال في فترة لن تتجاوز النيّف من السنين .. وقد تحقق له الحلم ، وأُسند اليه منصب كبير قضاة احدى المدن ، فاصدق وعده واثبت للعالم جدارته حتى شاع في وقته الشرف والامانة بين الناس وبلغ الحال ان لو سقط من احدهم شيء بقي في مكانه حتى يعاد اليه .. وأصبح الوفاء والإخلاص شيمة الرجال .
وترك للصين تراثا ، وفكرا، ومدرسة للأخلاق ، تتناقلها الاسلاف جيلا بعد جيل، ولم ينضب ماء النبع بل فاض وساح وتشعب في مساربه حتى غطى عموم الصين اجمع ، واضحت الكنفوشية الدين الرسمي للدولة ، وبقيت أفكاره على تاثيرها الفي عام من بعده .
ورغم كل هذه الهمة العالية والنفس الابيّة المتشوّفة الى ذرى المجد ، فقد كان متواضعا في عظمته ، ولم يدّع ان الذي جاء به أمر مستحدث وفكر مبتدع واخلاق صيغت من جديد ، بل هو النقل عن الاولين والاباطرة المعظمين ..
كان ينصح تلاميذه بالوضوح في الطرح والتفكير ، والصراحة في الإجابة عما يوجه اليهم من سؤال ، فان كان يعلم فليتمسك بقوله انه عالم ، اما ان جهل فليقر بذلك دون خجل .
وصف نفسه بانه ناقل وليس بمنشئ ، وكل الذي عمله لا يعدو نقل ما تعلمه من الغير اليهم ..
والسؤال الذي يعنينا من كل هذا .. الم يكن كونفوشيوس مبدعا في الفكر الذي تركه من بعده .. ؟
وهل الصحيح انه لم يقم الا بجمع كل التراث الخلقي للأسلاف وان الكتاب الذي جُمعت فيه أقواله ونصائحه ، لم يخرج عن الدعوة الى الالتزام بقوانين الاخلاق التي سادت والالتزام بقيمها .. ؟
لو كان الذي صاغه نقلا عن ما هو سائد قبله ، لخرج عمله صورة مطابقة للمنقول ، ولسادت الافكار القديمة بأسماء حامليها .. وليس من مبرر لأن تعيش المدرسة المسماة باسمه ( المدرسة الكونفوشية ) آلاف السنين ، وتندثر أسماء أصحابها الاولين ..
ان ما تميز به هذا الرجل هو حبه الشديد للتفرد ولا فرق عنده أن يتبوّأ مكانة اجتماعية بين الناس فيعرفونه او يظل نكرةً بينهم دون ان يلتفتوا اليه ، بل الأهم هو ان يكون جديرا باحترام الناس له ، وخليقا بان يعرف بينهم .
فما أروع هذا الخُلق وما احوجنا اليه ، ونرى ان في شيوعه بيننا إشاعة للمحبة والتسامح ، ولكُبح جماحُ العدوانية بيننا ولصار التنافس شريفا عندنا ، ولصار الكل اصيلا في سلوكه وتفكيره ، متفردا بشخصيته .
وكان حريصا على ان يعلم تلاميذه الّا يهاجموا غيرهم من المفكرين ويهدروا اوقاتهم بنقض أفكارهم .. ولعمري ان هذا ما يفتقده البعض من أصحاب القلم ، من الادباء والمفكرين الاعلام ، ومن كتاب المقالات على صفحات الانترنيت ، وإن كنا نرى ان في شيوعه بين – بعض - الاعلام ، حدة في الطبع وتعصبا في التفكير واعتزازا بما عندهم من الفكر، منهم على سبيل المثال ( العقاد ) و ( د . عبد الرحمن بدوي ) هم غير ملومين فيما ذهبوا فيه ، فما في عقولهم كم كبير وتفكير اصيل وابداع ونظر بعيد  .. وكان يحرص كل الحرص على ان يُعمل الطالب لديه عقله ويتجاوب مع أمور الفكر ومستجداته بذهن متفتح وعقل متفرد وشخصية لها كيان مستقل .. وتلك من مقومات الابداع وصفات المبتكرين .

الارتكاز على الماضي والانعطاف نحو المستقبل

عندما مر الحديث على ذكر (( كونفوشيوس )) لم يكن المعني به احياء ذكرى هذا الفيلسوف الحكيم والمربي العظيم والدعوة الى الاهتداء بتعاليمه وتثبيت القيم الروحية التي شاعت في مدرسته ، فلدينا من القيم الروحية والأخلاق السامية والنظرة المتكاملة ما يغنينا عن الحاجة الى نصيحته ، والمعني إذن هو اثارة السؤال عن الخيط الذي يربط كلاً من اطراف النقل والانشاء ، والاتباع والابداع ، والماضي والمستقبل ، والذكرى والاستشراف ..وان الفكر الذي تركه كونفوشيوس للصين لم يكن نقلاً لأخلاق الذين سبقوه وتاريخهم وحسب ، فلو كان الامر على هذه الصورة لم يخلّد اسم كونفوشيوس حتى عُبد، واصبحت تعاليمه مدرسة يتناقل افكارها الصينيون ويعلمونها أولادهم طوال الفي عام حتى حلّ النظام الشيوعي الحديث ، فالأجدر هو ان تُخلد أسماء أصحابها الأصليين فتطفوا ظاهرة على السطح وترددها الألسن .
لقد كان كتاب التاريخ الذي كتبه بيديه وتركه لاتباعه من بعده ، خليطا من احداث حقيقية عاشتها الصين في اعظم مراحلها وخطب واقاصيص وضعها من نفسه .. فكان عمله ابداعاً تفرد به لا صورة مستنسخة ، وقصصاً تاريخية وشّاها بزخرفه وفنّه في أسلوب الخطاب والعرض ، وعملاً فنيا يحمل بصمته . انه مبدع في ادارته وانشاء مدرسته وكتابة مؤلفه .
والمعني بعد هذا ان الابداع ، عمل تجتمع فيه ابعاد عديدة ، الخبرة والتجربة ، الإشكال والحل ، المأساة والامل ، ظواهر العالم و ديناميات العقل و ... و ... و ...ولو اجلنا النظر في العمليات الفكرية ( الواعية ) وآلياتها عند الانسان بشكل عام لادركنا ان ما قيل عن التأثيرات المتشابكة ( المؤثرة ) في صميم العملية الإبداعية هي نفسها حاضرة في ديمومة الوعي وانتقاله عبر ابعاد الماضي والحاضر والمستقبل .. ولو اجتزأنا الصورة التي تمر أمام اعيننا في هذه اللحظة من فلم سينمائي نشاهده واخضعناها الى التحليل ، لن نجد ابعاداً أخرى خارجة عنها ، لا ذكرى للّحظة الماضية ولا إحساس أو توقع لما سيحدث لاحقا .. اما عند الانسان فالأمر مختلف تماما .. اذ ان الوعي في كل لحظات مروره ، يتّكئ على ماضٍ مرّ به ويتطلع الى مستقبل آتيه لاحقا ، انه في حالة دائمة من الارتكاز على الماضي والانعطاف نحو المستقبل ، بحسب تعبير ( برجسون ) .
ففي لحظة الوعي الحاضرة عند كل انسان ، يجتمع الماضي بالمستقبل ، والاشكالات المستعصية بالحلول اللازمة لحلها ، والآلام التي عاناها بالآمال التي يرتجيها .. انها البِنية التي تشكل عقل الانسان وتحدد نهج تفكيره ، وتنتظم وفقها افكاره ..
ويتساوى في هذا كل واعٍ مفكر ، العادي والمتميز والفنان والعالم والمتبع والمبدع و المتخلف والعبقري .. 
وما قيل عن لحظات الوعي ، يقال عن تلك الاوقات التي يُنشئ فيها المبدع موضوعه المتميز ، فهو في كل الأحوال ابن بيئة يعيش فيها ، وارض يمشي عليها ، وأمة او جماعة ينتمى اليهم ويعيش بينهم .. وله طفولة قضاها ، وتربية استوعب مراميها ، واخلاق تشرّبها كما تتشرب الأرض ماء المطر ، تداخلت وتشابكت في أعماق نفسه وتركيبة ضميره ..
كان ( فيكتور هيجو) من المؤيدين لفكرة ان للعملية الإبداعية فترة تمهيد واعداد وتأمل ، وان للذكاء والذاكرة دور فاعل ومؤثر لا يتسنى لمخيلة المبدع ان تعمل بدونهما ، وان الالهام عنده كالطائر الذي يخرج من البيضة ، لم ينطلق الا بعد ان مرت عليه فترة رعاية واحتضان ورقاد .. وكأن هيجو يرد بهذا على من يرى ان في الابداع ضرباً من السحر والالهام الهابط من فوق او انفصالاً عن عالم الاهتمامات والانشغال بأمور حيواتنا اليومية .
وما ذهب اليه (هيجو) لم يكن بِدعا ، فهذا ( ادجار الان بو ) يصر على ان العملية الإبداعية موجهة في كل مراحلها وان الوعي والتوجيه في صياغة العمل انما يجريان وفق اهداف وغايات محددة ، كأن يلهب في نفوس قارئيه مشاعر الفرح او الحزن وان يضع لأشعاره قافية يحددها بنفسه ، ووقتاً يستغرقه العرض او الالقاء او القراءة اللازمة للعمل ..
وما يعنينا ان وعينا حينما يكون حاضرا في لحظات تفكيرنا المبدع فانه يدفع بأحداث ماضينا وتجاربنا التي مرت ، ومستقبلنا وأمانينا المرتجات لان تتشابك وتتفاعل فيما بينها وفق مسارات ما نملكه من مرونة في التفكير وحدة في الذكاء وقدرة على الاستنباط ، ليخرج العمل بعدها في صورة من الجدة والتفرد وكأنه إِلهام قد هبط علينا من السماء ونحن في غيبوبة وذهول . وان الالهام – ونعني به الابداع ، فالإلهام مرحلة من مراحله - لا يعني خلقا من العدم ، ولا هو شرارة تنقدح على حين فجأة في الرأس دون سبب .
( ويؤكد أصحاب النزعة الاجتماعية على ان للعوامل الوراثية والاجتماعية والتربوية والنفسية اثر بيّن في تكوين شخصية الفنان - المبدع - وفي تشكل ما ينتجه من عمل . ويؤكدون على ان مفهوم الأصالة الخالصة وهم وقع فيه أولئك الذين نظروا الى الفنان باعتباره كائناً غير ارضي ، هبط علينا من السماء ويتلقى الوحي من لدن موجود علوي .. وكلما وقعنا على تفصيلات حياة الفنان واهتدينا الى المصادر التي اخذ منها ، بدت نسبيته وصار عمله تأليفا بين أفكار قديمة وتعديلات على ما تلقاه من طرز فنية ... )
وليس ادل على ما مر بنا من تلك المراحل التي حددها دارسو الابداع ، فجعلوا للعمل المبدع مرحلة تهيؤ واعداد وتجميع للعناصر ذات العلاقة ، تأتي بعدها فترة ( اختمار ) يعاني فيها الفنان اشد لحظات القلق والتوتر لما يقوم به من جهد فكري – بوعي او بدون وعي - في تحديد الحالة وتحليل عناصرها والتعرف على خصائص كل منها ، ومن بعدُ ، الخروج باطار نهائي للفكرة .. ثم يأتي الالهام هابطاً وكأنه ومضة برق خاطفة ، انارت صفحة السماء واحالت الظلام الى نور يبهج القلب ويبعث السرور في النفس .
وماذا اذن عن الالهام الآتي الينا على هيئة حلم ونحن نائمون ، ساهون عن الواقع وشاردون ، وفي غفلة عما نعانيه من مخاوف أو قلق .. ؟ لقد حدثنا ( كوليردج) عن قصيدته الشهيرة ( كوبلاخان) وبين انه قد كتبها تحت تاثير حلم رآه .. وقال ( جوته) انه قد كتب روايته ( آلام فرتر ) وهو منصت الى هواجس آتيه اليه من أعماق نفسه .. بل قيل ان ( لامرتين ) كان يؤكد للآخرين ، انه لا يعمل تفكيره بالمواضيع التي تستهويه وانما أفكاره هي التي تفكر ، وماذا عن الاعمال الموسيقية العظيمة التي قدمها موزارت وهو في بدايات عمره ولم يتجاوز الرابعة عشر عاما بعد ..
اليس في الابداع شيء آخر هو غير الذي تحدثنا عنه ، غير الخبرة والتجارب و الماضي و المستقبل . قيل ان اول من استفاض في دراسة موضوعنا هذا هو افلاطون فقد خرج بنتيجة مفادها ان الابداع ( الفني) ضرب من الالهام او الجنون الإلهي ،
((وعلى هذا جاء الذين بعده ، من المتأثرين بمدرسته ، وراوا فيه الهاماً و سحرا واعجازا وقدرة غير عادية اختص بها اشخاص يتميزون بالاحساس المرهف والحدس اللماح والبصيرة الحادة والادراك النفاذ)) ..
لقد راى أصحاب هذا الرأي ان في الابداع شيئاً من الانفصال وقوة خارجة ( عليا فائقة للطبيعة ) ليست من مكونات العقل عند ذوي الالهام والابداع ، وان المُلهم فيه لا يعدو ان يصير(( واسطة وأداة ، فهو حينئذ لسان حال القوة الفائقة هذه )) . وبلغ بهم الحال ان يُعلوا من النزعة الذاهبة الى الإعراض عن المنبهات الاتية من المحيط وما يستتبعها من الضغوط المؤثرة على صفاء الذهن وانشراح النفس ، والاستغراق في التركيز على الداخل ، والاصغاء الى خطرات النفس الاتية من الأعماق ، بل الاصغاء الى همسات الوحي الآتي من ربات الشعروالالهام .. حتى ذهب الحال ببعضهم الى تناول العقاقير المهلوسة والمخدرات ، لعلّهم يحظون بلحظات من النشوة والوجد وجيشان الالفاظ والمعاني والخواطر المتواردة على عجل

السبت، 25 مايو 2019

كتابنا واصنافهم

كتابنا بين واحد من صنفين ، احدهما كبوتقة المختبر، يمتزج الداخل فيها من التجارب والملاحظات وكل ما عنّ له في الحياة فيكّون خليطا مختلفا او سبيكة متفردة لها من المواصفات ما تختلف فيه عن التي كانت عليه قبل التمازج والتمساك . وهو اشبه ما يكون بالنحلة عندما تجمع الرحيق من الازهار والنبات فيستحيل في بطنها عسلا شهياً وطعاما سائغا ولذة للشاربين ، وهذا هو الفنان والمبدع ..
الصنف الاخر ، يجمع الفكرة الى الفكرة كما يجتمع القوم بعضهم الى بعض ويلصق المشهد بالمشهد والصورة بالصورة كما تتلاصق صور الافلام ولن يكوّن المجموع حالة فريدة تبعث على الاعجاب ، وان استحسنه البعض فمع ادراك بانه كومة من فُتاة صخور صغيرة انحدرت من اعلى جبل عالٍ فتجمعت في قعر نهر ، وان في امكان من له العزم والصبر اعادتها الى ما كانت عليه .. وحال صاحبها كحال عصفور التقط حبات طعامه وهرسها في بطنه لتخرج بعدها في صورة تبعث على الاستهجان والاشمئزاز عند القارئ النبيه والناقد الحاذق (( وكاتب المقال يعترف دون امتعاظ او مضض انه مثال جيد لهم )) .. وهذا هو الجامع والمقتبس . 
قد يلجأ بعض كتاب الصنف الثاني الى تقديم نتاجاته بعبارات قصيرة تبعث في نفس من له قريحة وقادة وذهن صاف ونشيط وافكار متعمقة ومخيلة واسعة لان يجد فيها من الاشارات والمرامي ما يضعها في قائمة الاعمال المتميزة والادب الرفيع والحكم الخالدة ، وهؤلاء عباقرة اذكياء ، يعرفون كيف يرمون الشبكة ، لكنهم في حقيقة الامر عاجزون عن تقديم قطعة ادبية مطولة تثبت تفوقهم ولا تفضح سرّهم .. وهم اشبه بالرسام المبتدئ العاجز عن رسم لوحة طبيعية دقيقة فيلجأ الى الرسم على منوال مدارس الرسم التي تصنع اعمالها من ضربات فرشاة مبعثرة لا ضابط لها ولا نسق .
اما اصحاب الفكر المبدع فهم إن ارتأوا صبّ الذي يدور في عقولهم في قوالب صغيرة وعبارات قصيرة ، فحالهم مختلف اشبه مايكون بحال الرسام العبقري الكبير (( مايكل انجلو ان اصابت الذاكرة )) حينما رسم لاحد القادمين اليه صورة لم تستغرق اكثر من وقت حركة يديه المارة مرّاً سريعا تنثر الالوان وترسم الخطوط وتضفي عليها ملامح لوحته المطلوبة فدفع بها الى المشتري طالبا منه مبلغا رآه هذا كبيرا معللا ان رسمها لم يستغرق الا قليلا من الوقت ، وكان الرد بما معناه ( لقد استغرقت في رسمها عشرات السنين ) بمعنى انها ثمرة خبرة واسعة ونشاط دؤوب وكفاح مرير ومهارات تراكمت لديه منذ امد بعيد . . . 

الجمعة، 24 مايو 2019

سورة غضب



 سورة غضب


تزوج رجل نبيل امرأة يحبها حباً شديداً .. اصطحبها في نزهة يروّح عن نفسها ويريها جمال مزرعته الكبيرة وكثرة اشجارها وتنوع ازهارها .. اركبها احسن خيوله واغلاها عنده ..ثم انطلقا في مرح وفرح وفي قلب الزوجة امتنان لرعاية رجلها وما ابداه من عناية وحب ، حتى كاد ان يدفعها الى الاحساس بالزهو الطافح والغرور الظاهر والظن بان الذي تراه انما هو لجمالها الفائق وعلو شانها ورقي طبقتها الاجتماعية بين الناس .. وما ابداه الزوج كان يدعو للظن هذا واكثر .. وبان عنده في العديد من المواقف فقد كبا بها الفرس مرًة وكاد ان يسقطها على الارض لولا مسارعته ( الزوج) وتداركه للامر .. لم يسامح الفرس على فعلته بل انتهره – وكأنه يفهم - قائلا :- هذه الاولى ..  ثم انطلقا في نزهتهما الجميلة في ضحك ومرح وكأن العثرة لم تكن .. لكن سوء حظ الفرس قد عاوده فكبا مرة اخرى كما كان في الاولى لولا سرعة الزوج وحسن تصرفه ، اعجبت هي برجلها الشجاع الشهم وغمرتها سعادة وفرح وايقنت انها في رعاية بطل حياتها الى الابد ، وها هو يعاود وعيده للفرس ويكرر الذي قاله في الاولى في نبرة اقوى واشدّ :- انها الثانية ايها الفرس .. ثم انطلقا في لهوهما والتمتع بمشاهدة سواقي المياه الصافية وما تعكسه من صور الاشجار العالية والازهار الزاهية ولم يتنبها للحظ السيء الواقف في انتظارٍ وتربصٍ على المسار الذي يمر عليه الفرس .. فكبا هذا المسكين وتعثّر.. وما كان من الرجل النبيل الا ان قال في غضب : - انها الثالثة يا وغد فصوب بندقيته واطلق الرصاص على رأسه وارداه  صريعا على الارض .. ساد السكوت وعمّ الذهول وحارت الزوجة جوابا وما يلزم عليها من رد .. لكنها اجابت وعلى بالها ان رجلها قد قتل اعزّ خيوله واغلاها عنده ، اكراماً لها والتزاما باخلاق النبلاء الذين ينتمي اليهم ، و في الرد تأثر وتألم ومسحة غضب :- لم قتلت هذا المسكين .. افقدت عقلك ام ان بك تهوراً وسوء تقدير... ؟؟؟ فتح الرجل فاهه وتوسعت عيناه وارتفع حاجباه مع ملامح لم تفهمها فقال بشيء يوحي بالاستغراب والاكفهرار والتصميم :- هذه الاولى ...